الصلاح والاصلاح في القرآن
المقدمةالحمد لله، حمداً كثيراً على نعمه، والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد..
فإنّ الله تعالى قد أكمل دينه، وأتم نعمته على المؤمنين بما أنزله من القرآن الكريم على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد ( صلى الله عليه وسلّم ) ليخرج الناس به من الظلمات الى النّور، ويهديهم إلى صراط الله المستقيم، قال تعالى } ... قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ { المائدة: 15-16.
ولقد تسلّم الإسلام قيادة البشرية بعدما فسدت الأرض وأسنَت الحياة، وذاقت البشرية الويلات و } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّوَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِيعَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { الروم:41.
والصلاح هو الركن الذي ينبغي له الوجود عند كل بني البشر، ولا يستقيم حياة الإنسان دونه، فهو – الصلاح – للسعادةأساس، وللحياة ركن، وللإنسانية شرط ، ولتحقيق الخلافة مدلول.
كثر الكلام عن الإصلاح في العالم أجمع، وأصدرت كتب ومجلات وجرائد، وأنشأت أحزاب وحركات وجمعيات بإسم الإصلاح ، وكثيراً مانشاهد المظاهرات والهتافات تعلو على أجهزة الإعلام ( الإصلاح .. الإصلاح ) ، وبروز التيار الإصلاحي في العالم، وبغض النظرعن تفسير مغزبالإصلاح عند كل من يريد أن يفسره، فهناك من يفسره بأنه التسوية بين الرجل والمرأة،وغيره يفسره بأنه إعطاء الدور الكامل للطبقة المسمى – بالشباب – وإصلاحه، على كلٍ،فقد جذب شعور العالم نحوه .
لعل العالم رأت الفساد في جميع النواحي ، في السياسة والأخلاق والفكر و الإقتصاد والإجتماع ، لذا قاموا بتأسيس وتشكيل الأحزاب والجمعيات لغرض الإصلاح أملاً في إصلاح مافسد.
سبب اختيار الموضوعيرجع سبب إختياري لهذا الموضوع الى جملة من الأمور منها:-
1- إنحراف المسلمين عن المسار الذي رسمه القرآن .
2- الرغبة الصادقة في إضاءة شمعة على طريق الإصلاح.
3- حالا لأمة الإسلامية في أغلب المجالات، تغلغل عوامل الفساد ومظاهره في معظم المجتمعات.
4- الفشل الذريع لكل الجهود والمحاولات الإصلاحية عن طريق الأنظمة والمناهج الوضعية ، ووصولها الى طريق مسدود.
5- إنبهار بعض الناس بالمبادئ المستحدثة، وبألوانها البرّاقة، وماهو إلاّ الوهم الخادع والسراب الكاذب.
6- كيدأعداء الإسلام لصرف أمة القرآن عن نظامها الشامل للحياة.
7- القنوط التي إستولت على قلوب كثير من الناس ، ظنّاً منهم أنّه لاسبيل إلى إصلاح هذه الأمة ، ولا أمل في إستعادة مجدها.
قمت بتقسيم هذا البحث على ثلاثة مباحث ، ولكل مبحث مطالب وعلى الشكل الآتي :-
المطلب الثالث: قواعد ومراتب الإصلاح. المبحث الثالث : مجالات الإصلاح . المطلب الاول : أولاً: الإصلاح السياسي. ثانياً: الإصلاح الإجتماعي. المطلب الثاني : أولاً: الاصلاح الاقتصادي . ثانياً: الاصلاح الاخلاقي. ثالثاً: الاصلاح الفكري.
الخاتمة .....
المبحث الأول
المطلب الأول
المعنى اللغوي والشرعي للصلاح والإصلاح
الصلاح : ضد الفساد، ورجل صالح في نفسه من قوم صلحاء ومصلح في أموره، وهذا الشئ يصلح لك أي : هو من ياتيك.
والإصلاح : نقيض الافساد ، والاستصلاح نقيض الاستفساد، واصلح الشئ بعد فساده أي أقامه، واصلح الدّابة ، أحسن اليها فصلحت.
والصلح تصالح القوم بينهم ، والصلح السلم ( [1]).، صلح صلاحاً وصلوحاً: زال
عنه الفساد، والشئ كان نافعاًاو مناسباً، يقال: هذا الشئ يصلحلك.
أصلح ذات بينهما : أزال مابينهما من عداوة وشقاق، وفي التنزيل } وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا...
{ الحجرات: 9 ، و}... فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ {
الأنفال: 1 .
وإستصلح الشئ : تهيأ للصلاح والصالح ، المستقيم المؤدي لواجباته والصلاح،
الاستقامة والسلامة من العيب، ...والصلح انهاء الخصومة ( [2]).
المعنى الإصطلاحي للصلاح
الصلاح مختص في اكثر الاستعمال بالافعال، وقوبل في القران تارة بالفساد
وتارة بالسيئة ، قال تعالى } ... خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ
سَيِّئاً { التوبة: 102، وقال ايضاً } وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
بَعْدَ إِصْلاحِهَا {الأعراف: 56 .
والصلاح هنا يراد به ان يكون الإنسان صالحاً في ذاته ، قد بدأ بنفسه فطهرها وهذبها وأقامها على الصراط فاصبحت نفساً طيبة صالحة .
يقول الإمام الغزالي ( [3]) رحمه الله (( فحق على كل مسلم ان يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات )) ( [4]).
ويقول الآلوسي رحمه الله (( الصلاح عبارة عن الإتيان بما ينبغي والإحتراز
عمّا ينبغي )) ( [5]) ، وهو أي : الصلاح: جامع لكل خير وله مراتب غير
متناهية ، ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، ولذا طلبها الأنبياء عليهم
السّلام كما قال النبي سليمان عليه السّلام } وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ
فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ { النمل: 19( [6]).
المعنى الإصطلاحي للإصلاح
يقول الإمام الغزالي رحمه الله بعدما وضّح واجب المسلم تجاه نفسه بتهذيبه ،
شرع في بيان معنى الإصلاح فقال: ( ثم يعلم ذلك – أي الذي قام بتهذيب نفسه
وصلاحه – ثم أهل بيته و يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه ثم إلى أهل
محلته ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادالمكثف ، ثم إلى أهل البوادي من
الأكراد والعرب وغيرهم...)، وبتوافر عنصري الصلاح في النفس والإصلاح للنفس
يتحقق للإنسان إكتمال فضيلة أخلاقية قرآنية ذات شقتين ، يكمل احدهما
الأخرى ، تلك هي ماعبرت عنه بكلمتي (الصلاح والإصلاح ) ( [7]). ،فاذا
عرفنا بان الصلاح هو القيام بتهذيب الآخرين والتعدي من النفس إلى الغير،
إذاً أدركنا ذلك ، فبم يتحقق القضية وبم يتم ذلك؟.
يقول الإمام إبن تيمية( [8]) رحمه الله (( إنّ صلاح العباد بالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، فإنّ صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله، ولايتم
ذلك إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبه صارت هذه الأمة خيرأمة
أخرجت للناس)) ( [9])، فمضمون الإصلاح إما أمر بمعروف أو نهي عن منكر ،
وجاء في معجم العلوم الإجتماعية إن المقصود بالإصلاح هو " تغيير في نموذج
من النماذج الإجتماعية أملاً في الوصول إلى تجسيد ذلك النموذج، وحركات
الإصلاح بمعنى الكلمة تنزع إلى تخفيف مساوئ النظام الإجتماعي وتصحيح
الأوضاع الفاسدة وذلك عن طريق تعديل في بعض النظم الإجتماعية دون أن يؤدي
ذلك إلى تغيير البناء الأساسي للمجتمع " ( [10]).
المطلب الثاني
أولاً : العلاقة بين الصلاح والإصلاح
الإقتران المتكرر، الغالب بين الإيمان والعمل الصالح يشيرإلى ان الايمان
مقدمة ومدخل إلى الصلاح، ونعني بالايمان: الذي يغيرالإنسان فيصلحه، فهذا
التغيير الناشئ بدافع الإيمان هو الصلاح، أي شأن المؤمن مع الخالق وأوامره
ونواهيه، كما ان للإيمان ثمرات، ومن ثمره الصلاح ، وإلاّ فما الفائدة من
الصالحين ؟، والإصلاح يكون ثمرة أو نتيجة الصلاح ( [11]).
الإصلاح قوام بقاء المجتمع وخيريته، لكن لاتنفك علاقته عن الصلاح ، فلا
إصلاح بدون صلاح، وبدون العودة إلى الذات وبدون تغيير مابالنفوس } إِنَّ
اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ {
الرعد: 11، فان الأمم المنتصرة على أعدائها، أمم حققت نصراً داخلياً
أولاً ، وحققت كل واحد من أبنائها نصراً على الصعيد الشخصي من خلال تغييره
مافي نفسه ( [12]).
إن الإهتمام بإصلاح الدنيا من شيمة المؤمن } وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ { الانبياء:105، مهمة الصالحين هي العناية بالارض والعمل على
استقامته على الارض – مهمة الحياة البشرية – وستكون زمامها بيد الصالحين ،
وكما يكونون ورثة ( الفردوس ) في الآخرة ، لابد وان يكونوا ورثة الارض،
فهل من الممكن أن يكونوا وارثين مكفوفي الايدي؟.
لاشك } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { العنكبوت69، فالإصلاح يهدف إلى توفير
الدافع الداخلي لدى جماهير الشعب ، تلك الجماهير المتعطشة إلى انتفاضة
القلب كيما تنتصر على ما أصابها من خمود( [13]).
فتوفير الدافع الداخلي من أجل إنتفاضة يصلح الخارج بواسطة إنتفاضة القلب ،
جاء في حديث إبن لبيد حيثما ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلّم ) أمراً
فقال : (( وما ذلك في زمان ذهاب العلم، فلما سأله الصحابي : وكيف يذهب
العلم ونحن نقرأ القرآن ونستقرئ أبناءنا ، وأبناؤنا يستقرؤون أبناءهم
القرآن؟.. فقال أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولاينتفعون
مما فيهما بشئ )) ( [14]).
ثانيا: آثار الصلاح والإصلاح على الفرد والمجتمع
الصلاح والإصلاح: هما الحصن الحصين لبقاء المجتمع وتقدمه ويعتبران الحياة التي جاهد المصلحون من أجلهما .
للصلاح والإصلاح في القرآن الكريم آثار كثيرة نذكر بعضاً منها:-
1- الحياة الطيّبة:
قال تعالى } مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ { النحل:97، ان العمل مع
الإيمان جزاءه حياة طيبة في هذه الأرض ، لايهم أن تكون ناعمة رغدة ، ثرية
بالمال، فقد تكون به ، وقد لاتكون معها، وفي الحياة أشياء كثيرة غيرالمال
تطيب بها الحياة في حدود الكفاية، وفيها الإتصال بالله والثقة به
والإطمئنان إلى رعايته وستره ورضاه، وفيها الصحة والهدوء والرضى والبركة،
وسكن البيوت ومودة القلوب وفيها الفرح بالعمل الصالح وإيثاره في الضمير
والحياة ( [15]).
2- النجاة منالهلاك والدمار:
قال تعالى : } وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ { هود:117، ولتفسير المنار كلام مهم في التعليق
على هذه الآية الكريمة " أي وماكان من شأن ربك وسنته في الإجتماع البشري ان
يهلك الأمم بظلم منه لها في حال كون أهلها مصلحون في الأرض، مجتبين
للفساد والظلم، وانما اهلكهم ويهلكهم بظلمهم وإفسادهم فيها كما ترى في
الآيات العديدة من سورة هود وغيرها "( [16]).
3- وراثة الأرض والاستغلال فيها:
على المؤمن بالقرآن أن يتيقن بأن وراثة الأرض مشروطة بمهمة الإصلاح } أَنَّ
الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ { الانبياء:105، وأساس
الصلاح وعماده هو ماقاله تعالى : } الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ
{ الحج:41.
4- جلب ولاية الله :
ومن آثار الصلاح أيضاً انه يجلب ولاية الله ورعايته لعبده الذي أخذ بين
جنبيه نفساً صالحاً قام بتهذيبها، وقامت بدورها التي من أجلها خلقت وحينئذ
يجلب الولاية ، قال تعالى : } إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ
الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ { الأعراف:196، وانها - أي
المنكرات – إنتهاك حرمات الله ، والله تعالى يغار على حرماته أن يعتدي
عليها، ومن شأن المؤمن الصالح ان يكون ولياً لله ،يحب مايحب الله ويبغض
مايبغض الله ، ومعنى هذا ان من رأى حرمات الله تنتهك ولم يكن له غيرة تنزع
به إلى الحفاظ عليها، وحمايتها من عدوان المعتدين وإقتران المقترفين، لم
يكن ولياً لله ولا واقعاً موقع رضاه ... ( [17]).
5- حفظ النسب أو العناية الإلهية بالذرية :
قال تعالى : } وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً { الكهف:82، بناء جدار
اليتيمين في قصة موسى عليه السّلام مع الرجل الصالح معروفة ، ولم تأت
العملية صدفة وبلا سبب، وإنما كان أثراً لصَلاح أبيهما.
عن هنادة بنت مالك الشيبانية ، قالت : (( وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم
يذكر فيها صلاح وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء وكان
نسّاجاً ، وكان أبوهما صالحاً )) فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ ذريته
وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة شفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى
أعلى درجة في الجنّة لتقر عينه بهم كما جاء في القرآن ووردت به السنّة ،
قال سعيد بن جبيرعن إبن عباس - رضي الله عنهما - حفظاً بصلاح أبيهما ولم
يذكر لهما صَلاحاً ( [18]).
6- الإطمئنان:
الإصلاح أمان في أي شئ يفزع في الحياة ، وحيلولة دون وقوع الحزن، والنفس
المستقيم بالصلاح يتحدّى الكبد التي هي طبيعة الحياة الدنيوي ، والنفس الذي
ارتكب النحراف عن الصلاح والإصلاح فقد تورط في هموم الدنيا ولم يخرج
صاحبه من فزع الحياة ، قال تعالى : } وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ
إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ { الأنعام:48 ( [19]).
7-جلب المغفرة والرحمة :
قال تعالى : } ... وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ
غَفُوراً رَحِيماً { النساء: 129، وقال ايضاً: } رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا
فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ
لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً { الاسراء: 25 .
المطلب الثالث
صفات المصلحين في القرآن
إن القرآن الكريم ملئ بالنماذج الحيّة التي تمثل أنموذج الشخصية الإصلاحية
من الأنبياء والمصلحين الذين جعلهم القران بمثابة مؤسسة علمية كبيرة تعطي
الضوء على كل ما يحتاجه المصلح في ميدان اصلاحه ، كل في ميدانه ، ومن خلال
السماع إلى قصص المصلحين في القرآن الكريم ندرك أهمية هذه الصفات ونتطلع
على جملة صفات ، وهذه الصفات شروط في تحقيق الإصلاح العام ، لمن أراده،
ومن أهم هذه الصفات:-
1- وضوح النيّة : } إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ
مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً { الإنسان:9 ، و} وَمَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ {
الشعراء:109، و} ... إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ {
الاحقاف: 21، فكانت نياتهم في تغيير الواقع لله تعالى فقط، وكل يعقب على
نيته بلسانه الخاص ، فعند ما قاوموا الإفساد في العبادات والإقتصاد و
الأخلاق والحكم، قد بينوا نياتهم، لذا وقع أجرهم على الله ، } ... إِنَّا
لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ { الأعراف: 17، ( [20]).
2- التوكل والثقة والصبر واليقين : لكل من هذه الكلمات معاني ذات أهمية ،
فهي مقومات لبناء النفس والأمم ، ولم يأت نبي ولا مصلح إلاّ زود بهذه
المقومات لأداء رسالته الإصلاحية، فاذا لم يتحلى المصلح بهذه العناصر فليس
بإمكانه أن يجتاز المرحلة ، بل المراحل منصوراً، فلسان كل مصلح في القرآن(
وماتوفيقي إلا بالله فهو القادر على إنجاح مسعاي)، يقول سيد قطب بعد أن
يوضح قيام الجماعة الخيّرة المهتدية المصلحة المتجردة التي تعرف الحق الذي
بيّنه الله تعالى وتعترف بأنها مكلفة بدفع الباطل وإقرار الحق في الأرض ،
ومن هنا كانت الفئة القليلة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر ، ذلك
إنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض وتمكين الصلاح في
الحياة ، إنها تنتصر لأنها تمثل غاية عليا تستحق الإنتصار( [21]).
3- الإستعداد: كان للمصلحين إستعدادت كما هو بيّن في القرآن الكريم، وفي
جميع المستويات ، لكل عبئ في الطريق ، وهم يوجهون نحو إنقاذ الأمة ( أدعوكم
إلى النجاة )، ونجاة الأمم شئ عظيم ، وبناية ضخمة لابد لها من أساس عظيم،
بدءً من الإستعداد النفسي لبذل الروح وقطرة الدم عند الحاجة ، فليست
الدعوة جمعية خيرية تقنع بالقليل ، والإستعداد للتعب اليومي ( [22]).
4- القدوة : لايصلح الداعي للإصلاح إلى مايريد إلاّ من خلال أن يوَطِّن
نفسه القدووية ، ولاشك ان من توفر فيه الصفات المذكورة من النية والثقة
والتوكل وغيرها يصبح قدوة (( وان التوحيد مع التوجيه الهادف للمشاعر لن
تأتي إلاّ من القدوة الصالحة التي تتجسد في الدعاة المخلصين وعلماء
المسلمين النابهين ممن يضربون المثل في التفاني والإخلاص والموضوعية
والقدرة على الإقناع وجذب الرأي العام نحو قضايا الأمة ليعرف كل مسلم ماخفي
وما جهل من أمور دينه ودنياه، وليدرك خطورة وأهمية مشاركته لتخطي المرحلة
التي تعيشها الأمة من التخلف والقهر وتدني وسائلها في مواجهة الصراع
الحضاري المفروض عليها فرضاً )) ( [23]).
5-علو الهمة مع اللطف والألفة : تندرج هذا تحت مايسمى بالطاقة الأخلاقية ،
فالهمّة العالية هي التي تصل إلى الهدف المرجو ، وبدونها يستحيل تحقيق
الغايات ، والألفة من أبرز معالم الخلق الحسن ومن أنصح ثمارها ، ومن أبرز
خصائص الشخص المؤثر الجذاب ، اللطف والخلق الرفيع ، ولاشك ان الشخص السيئ
الخلق فرد منفرد إلى أبعد الحدود ، وليس من سمات الصالحين فضلاً عن أن
يكونوا مصلحين ، ومن هنا فقد أكدت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على
أهمية إلتزام بالسلوك الجذاب المؤلِف، وعلى تجنب السلوك والتصرف المنفِّر،
فجاء هذا التحذير الواضح } فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ
فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَوَكِّلِينَ { آل عمران:159 ، وقال: }وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ
وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي
بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ { فصلت:34، فموسى
وعيسى ومحمد صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ، كانوا مجمعين لتلك الطاقة
الأخلاقية التي أوصلوهم إلى نفوس فطرية بسبب علو الهمّة واللطف والألفة (
[24]).
المبحث الثاني
المطلب الاول
مصير الأمة التي تركت الإصلاح
لغة القرآن مع بني البشر واحدة، وفي القرآن كثير من القصص للأمم الغابرة ,
فقد تحدث عن وجود أقوام بعد بدء الخلق وصنفها، اما من حيث الخيرية أو
الشرية .
فالقرآن تحدث عن بني إسرائيل } يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ
الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَالَمِينَ { البقرة:47، هكذا كانوا ، لكن بعدما أعرضوا عن التوراة
،ماذا كانت منزلتهم ؟ فقد قال فيهم } مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا
التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَاراً { الجمعة:5، ولما وقعوا في الفساد والافساد، بدأوا بالانحراف
والعصيان والاعتداء قال في حقهم : } ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ { آل عمران:112،.
من الجدير أن نقف هنا ونطرح سؤالاً مهماً ، ياترى مالسبب وراء تلك العقوبات
الالهية الصارمة ؟ الجواب ماقاله تعالى:- } ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون {
آل عمران 112، فعندما ندرس حال الأمة الإسلامية فى القرآن } كنتم خَير
أمة أخرجَت للناس { على أساس } تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر { قبل
(وتؤمنون بالله) يجب ان نتذكر حال بني إسرائيل } وفضلناكم على العالمين {
فأذا فقد المسلمون هذا الأساس وإنحرفوا عن منهج الله فلم يكن لهم شأن أفضل
على الله من بني إسرائيل وليسوا بأكرم منهم , فإن قانون الله واحد } يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ … { المائدة :54 ، وان الله
عز وجل يذكرالأمة الإسلامية باحوال الأمم الماضية فيقول في سورة الفجر
}أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ
جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ
طَغَوْا فِي الْبِلادِ { الفجر:6-11.
ويقدم الحديث النبوي تفصيلات واسعة ودقيقة عن الأمم السابقة من الذين
إكتفوا بالصلاح وأوكلوا غيرالصالحين ورضوا بأفعالهم فكان ذلك سبباً في شمول
الجميع بالعذاب , وتحذيرات صارمة للمسلمين ليأمروا بالمعروف وينهوا عن
المنكر ويقفوا بوجه الظالم ويتصدوا للمفسدين , وإلا سيذيقهم الله ألواناً
من العذاب السياسي والإجتماعي والعسكري والإقتصادي في الدنيا إضافة إلى
ماينتظرهم في الآخرة ( [25]).
إن المعادلة القرآنية: هي كل طغيان في البلاد ينتج عنه إكثار في الفساد،
وينتج عن الطغيان والفساد العذاب والعقاب، يوقف الله بالطغاة الفاسدين
المفسدين وهذا ليس خاصاً بالطغاة السابقين كعاد و ثمود وفرعون، ولكنه قاعدة
مطردة وسنة ربانية دائمة، تنطبق على الطغاة في كل زمان ومكان } إِنَّ
رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ { الفجر:14، ( [26]).
ومن الآفات التي تلحق الأمة التي تترك الإصلاح:-
1- تعميم العذاب في الدنيا:
قال تعالى :} وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ {
الأنفال:25، فالسكوت عن المعاصي والاعلان بها من موجبات العقاب والهلاك،
لان السكوت عليها يغرى أصحابها على التمادى واستفحال أمرها وإنتشارها
بكثرة، وذلك قد يتعدى إلى كل طبقات المجتمع الإسلامي، فيصبح الناس كلهم
منحلين من الاخلاق الكريمة والآداب السامية الإسلامية، وحينئذ لا يبقى
لوجود الصالحين بين الناس فائدة كبيرة ، لغلبة الشرعلى الخير، بل يصبح
الأخيار و الأشرار وقته سواء،غيرأن الصالحين ينقلبون إلى مغفرة الله
ورضوانه حسب صدقهم وإخلاصهم، وقد يكون ما أصيبوا من عقاب وعذاب، تطهيراً
وتمحيصاً لهم ( [27]).
الأمة محصنة بقيم ، مالم تنكسر تلك القيم وما لم يكن في بنيانها ثغرة لدخول
الافساد، ومن الثغرات التي تسبب الهلاك وتاخذ الأمة بلا فرق في بني
أفرادها هو ظهور المعاصي التي تبنى بالفساد مع السكوت عليها.
ذلك ان الوصية اذا صدرت من فرد وأتى بها خفية كما هو المطلوب ممن إبتلي بشئ
من ذلك، كان ضررها قاصراً عليه، ولا يتعدى شرها لغيره، اما اذا اصبح
المجرمون والمنحرفون يعلنون بإجرامهم ويتظاهرون بفسوقهم، ولم يوجد من ياخذ
على أيديهم ويردعهم، ويصل حينئذ وباءها إلى العامة والخاصة ولم يبقى
وبالها مقصوراً على مرتكبيها و بذلك جاءت نصوص الشرع، قال الله عز وجل }
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { الأنفال:25، فقوله عزوجل }
وأتقوا { هو خطاب للمؤمنين مطلقاً صلحائهم وغيرهم، والمراد بالفتنة
العذاب الدنيوي كالقحط والغلاء وتسلط الظلمة وغير ذلك، } وَاتَّقُوا
فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ { الأنفال:25 ،
أي إتقوا فتنة تتعدى الظالم فتصيب الصالح والطالح واصابها بمن يباشر الظلم
منكم، واتقاء هذه الفتنة يكون بالكف عن الاسراف في الذنوب والاخذ على ايدي
المهاجرين بها( [28]) .
وإن الآثمين إذا تركوا من غير رأي عام مهذب لائم هدموا بناء المجتمع، فإذا
لم يأخذ الفضلاء على أيدهم سقطت الأمة، و تغيرت حالها، وأضطربت أمورها،
وتقطعت الصِلاة التي تربطها، } إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ { الرعد:11 ( [29]).
2- الذلة والهوان والفقر:
إن الإصلاح أمر من الله، فضياع أمره يجلب الإنتقام الإلهي، ولا بارك لأمة
ان ينتقم الله منهم، قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا صفوان بن
عمرو حدثني عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه (( لما فتحت قبرص فرّق بين
أهلها فبكي بعضهم إلى بعض، فرأيت ابا الدرداء جالساً وحده يبكي: فقلت يا
ابا الدرداء ما يبكيك في يوم أعزّ الله فيه الاسلام وأهله؟ فقال ويحك يا
جبير: ما أهون الخلق على الله عزوجل إذا ضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة
لهم الملك، تركوا أجر الله فصاروا إلى ما ترى )) ( [30]).
وفي مراسيل الحسن عن النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) : (( لا تزال هذه الأمة
تحت يد الله وفي كنفه مالم يمالئ قرائها أمرائها ومالم يزكِّ صلحاءها
فجّارها، وما لم يهن خيارها أشرارها فاذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم
ثم سلّط عليهم فساموهم سوء العذاب ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر )) (
[31]).
3- عدماستجابة الدعاء:
إن ترك الإصلاح يؤدي الى تعميم العذاب في الدنيا ، والهلاك المعنوي ،كالفقر
والذلة والهوان، التي تعتبر من موجبات عدم إستجابة الدعاء، فعن حذيفة رضى
الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) قال: (( والذي نفسى بيده لتأمرن
بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً ثم تدعونه
فلا يستجيب لكم )) ( [32]).
4- ضرب القلوب بعضها ببعض :
قال النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) : (( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر
ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه عن الحق أطراً أو ليضربن الله في قلوب
بعضكم ببعض ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )) ( [33]).
" وضرب القلوب على القلوب المشار اليه في الحديث الشريف إشارة إلى مزجها
وخلطها ببعض ، بمعنى ان تمتزج القوب الفاسدة مع القلوب السليمة وهذا من
شأنه أن ينقل الفساد والاعتلال إلى القلوب السليمة الصحيحة لا العكس ، فإن
مخالطة الصحيح للمريض لايمكن ان تنقل الصحة إلى المريض بل ان المريض هو
الذي ينقل المرض إلى الصحيح بالعدوى , يقول الشاعر :
ولا تجلس إلى أهل الدنايا فان خلائق السفهاء تعدى
ومن هنا كان واجباً على المجتمع المؤمن لكي يحتفظ بوجوده سليماً معافى من
آفات العلل النفسية والأسقام الخلقية التي من شأنها لو تمكنت منه أن تدمره ,
وتأتي عليه كما يأتي الوباء على من ينزل به، نقول إن الواجب على المجتمع
المسلم أن يتفقد مواطن المنكر التي وصله من بعض أفراده فيعمل على إجلائها
من مواطنه بكل وسيلة ممكنة له , ومن ذلك إشاعة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وهذا من شأنه أن يحقق وقاية وعلاجاً معاً " ( [34]).
5- الاستحقاق للعنة الله :-
اللعن هو الطرد من رحمة الله وتحت كنفه , كما ان رحمة الله تعم ميادين
الحياة فإذا رفعها الله فسيحقق آثارها في كل الميادين , أي يأخذ اللعن كل
نواحي المجتمع , بدءً من صلاحية الأفراد وتنتهي بإنهيار الحضارات , فلا
تبقى لوجودها مقومات , عن إبن مسعود قال قال النبي ( صلى الله عليه وسلّم )
(( ان اول ما دخل النقص على بني إسرائيل انه كان الرجل يلقى الرجل فيقول
يا هذا اتق ودع ماتصنع به فإنه لايحل لك .ثم يلقاه في الغد وهو على حاله
فلا يمنعه ذلك ان يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما علموا ذلك ضرب الله قلوب
بعضهم ببعض )) ( [35]) ، قال تعالى } لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي
إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ .كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ { المائدة:78 –79 ثم قال ( صلى
الله عليه وسلّم ) : (( والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن
على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً )) ( [36]).
أما الحضارة وإنهيارها وإصابتها بالطرد من كنف الله ، كم أمتدت جذورها فانّ
من قبلنا عبرة } وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ
يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ
قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ { هود:89، }
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ
فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ
الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَا { الأعراف:74.
إنهم كانوا في الحجر وهي بين الشام والحجاز، ونلمح من تذكير صالح لهم أثر
النعمة والتمكين في الارض لثمود , كما نلمح طبيعة المكان الذي كانوا يعيشون
فيه , فهو سهل وجبل وقد كانوا يتخذون من السهل القصور وينحتون في الجبال
البيوت , فهي حضارة عمرانية واضحة المعالم في هذا النص القصير … وصالح
يذكّرهم إستخلاف الله لهم من بعد عاد، وإن لم يكونوا في أرضهم ذاتها ولكن
يبدو انهم كانوا أصحاب الحضارة العمرانية التالية في التاريخ لحضارة عاد،
وان سلطانهم إمتد خارج الحجر أيضاً ،وبذلك صاروا خلفاء ممكنين في الارض
محكمين فيها وهو ينهاهم عن الإنطلاق في الأرض بالفساد، وإغتراراً بالقوة
والتمكين، وأمامهم العبرة ماثلة في عادٍ الغابرين ( [37]) .
ونتيجة اللعن ورفع الرحمة عن الأمة تأتي تقطيع الأمة إلى أمم شتى، كل واحدة على حدتها وهي المأزق الكبرى التي وقعت الأمة الإسلامية اليوم فيها , كان غضب الله على بني إسرائيل من هذا النوع، قال تعالى } وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { الأعراف:168، " و ان ما وقع ببني إسرائيل تحت غضب الله ولعنته حتى رماهم بالتشريد ومزقهم في الأرض، وحصل ذلك لهم لأنّهم لم ينكروا المنكرات الشائعة فيهم، بل تركوها تتوالد وتتكاثر الجراثيم حتى إغتالت كل صالحة فيهم" ( [38]).